لفهم هذا الموضوع لا بد من استعراض بعض الجوانب المحيطة بهذا الجزء من قصة لوط عليه السلام.
يلخص القرآن الكريم العيوب الأخلاقية التي كان يعاني منها قوم لوط عليه السلام في قوله تعالى:
ولُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (29) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (30) العنكبوت
فوفقا للآيات السابقة، فقد كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء ويقطعون السبيل ويقومون بأمور منكرة أخرى متعددة.
وقد كان قوم لوط يسكنون في مدينتي سدوم وعمورة اللتيْن تقعان في الساحل الجنوبي الغربي للبحر الميت تقريبا. وكانت المدن في ذلك الوقت تتمتع بنوع من الاستقلال الذاتي أو تشكل كل مدينة أو مدينتين دويلة صغيرة. وكما تذكر الآيات السابقة، فقد كان أهل هاتين القريتين يقطعون السبيل، لذا كان من الطبيعي أن تكون بينهم وبين غيرهم العداوات بسبب فعلهم هذا. وعلى كل حال، فهذا ما يذكره الكتاب المقدس، حيث يبين أنهم كانوا على عداوة مع الأقوام والمدن المجاورة. وقد كان محور دعوة لوط عليه السلام التركيز على إصلاح العيوب الأخلاقية الفظيعة التي كانوا يعانون منها، ومع أن القرآن الكريم يذكر أنه كان ينهاهم أيضا عن قطع الطريق، إلا أن أكثر حديثه كان متعلقا بالنهي عن إتيان الفاحشة والدعوة إلى الطهارة. فكان أن ضَجِر قومه منه، وقرروا أن يتخلصوا منه ويخرجوه، وكانت حجتهم أنه هو وأهله " أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ "؛ أي يدعون إلى الطهارة. وهذا ما تذكره الآيات التالية:
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (81) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (82) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (83) الأعراف
وبما أن قوم لوط كانوا يقطعون الطريق، ونتيجة عداوتهم للأقوام المجاورة، فقد كانوا قد نهوا لوطا عليه السلام عن استقبال الضيوف الغرباء، لكي لا يشكل ذلك خرقا أمنيا. إلا أن لوطا لم يكن ليرفض استقبال ضيف نزل عنده. وهكذا كانت زيارة الرسل للوط عليه السلام ورطة عصيبة بالنسبة له. وبمجرد علم قومه بنزول هؤلاء الضيوف، اتخذوا الذريعة الأمنية كمبرر وكفرصة سانحة لإخراج لوط عليه السلام وآله من القرية. وهذا ما كان مبعث الاستبشار عندهم، فهم لم يستبشروا بمقدم الضيوف بل بسبب أن الفرصة قد سنحت لهم لإخراجه. حيث يقول تعالى:
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (68) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (69) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (70) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (71) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (72) الحجر
وبقدوم قومه إليه، خاف لوط على ضيوفه أن يمسهم الأذى من هؤلاء الأشرار تحت ذريعة أنهم قد اخترقوا الأمن. وتسجل الآيات السابقة تذكيرهم له بأنهم قد نهوه عن استقبال الضيوف من الغرباء، ولكنه كان يتوسل ألا يمسوهم بأذى وأن يحترموا جواره. وتكرر الآيات التالية – والتي تتضمن الآية موضع السؤال – مضمون الآيات السابقة مع مزيد من التفصيل:
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (78) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (79) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (80) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (81) هود
أما قول لوط عليه السلام " هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ " وفي الموضع الآخر " قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ". فهذا الذي أسيء فهمه من قبل المفسرين.
وتفسير ذلك يحتمل وجهين:
الوجه الأول:
بناء على الآيات السابقة، نلاحظ أن لوطا عليه السلام كان يكرر دعواه في نهيهم عن ارتكاب الفاحشة، وكان هذا هو كلامه المتكرر لهم لدرجة أنهم ضجروا منه وقال إنه وآله " أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ "، وكأن في ذلك إشارة إلى قوله " هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ "؛ أي يبدو أنه كان يذكرهم بضرورة الالتفات إلى زوجاتهم وترك الفاحشة، ويبدو أنه كان يحبب إليهم الأمر ويكلمهم بلين فيعتبر زوجاتهم أنهن بناته ويذكّرهم بأن في ذلك طهارة لهم. وهذه صيغة معروفة مألوفة من الكلام اللين الرقيق الذي يتبعه الأنبياء في دعوتهم. أي أن البنات هنا لا يعنين بناته الفعليات اللاتي من صلبه، وإنما استخدم الصيغة على سبيل المجاز.
وهكذا، فعندما حدثت هذه الحادثة، فقد استبشروا بها، وقالوا تلك فرصتنا لإخراجه بذريعة خرقه للأمن ولعدم استماعه لما نهيناه عنه! ولهذا فقد ركزوا على الذريعة وجاءوه بمظهر الغاضبين اللائمين.
وعندما جاءوه في تلك الصورة، خشي لوط عليه السلام أن يمسوا ضيوفه بالأذى، فأخذ يرجوهم أن يقبلوا جواره وضيافته لهؤلاء الغرباء، كما أخذ يذكرهم بأن يتقوا الله تعالى ولا يمسوهم بأذى. وبما أن ارتكابهم للمعاصي هو السبب في قساوة قلوبهم، فقد كرر لوط عليه السلام تذكيرهم بترك الفاحشة والالتفات إلى أزواجهم؛ أي كرر حديثه عن الطهارة المضجر من وجهة نظرهم، وهذا كي تلين قلوبهم وكي يثوبوا إلى رشدهم وكي يكونوا قادرين على العفو أو قبول تلك الضيافة. إلا أنهم بسماعهم لتذكيره هذا في هذا الموقف، نظروا إلى الأمر كأنه تغيير للموضوع ولسياق الكلام، فأرادوا تذكيره أن كلامك الآن في غير محله، فدعنا من "بناتك" فليس هذا موضوعنا الآن. وهذا ما تشير إليه الآية " لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ". وقد يستغرب البعض من قولهم "بناتك"، ولكن هذا الأمر ليس مستغربا، بل معتادا ودارجا على الألسنة. ولتوضيح ذلك أضرب مثالا؛ فلو افترضنا أن رجلا يريد أن يصلح بين صديقه وزوجة صديقه، فأخذ يقول له إن أختي (يقصد زوجة صديقه من باب التحبب) طيبة ومحترمة، فحبذا لو تصالحتما. فربما يرد عليه صديقه إن لم يكن راغبا في الصلح في ذلك الوقت ويقول: "دعني من أختك الآن". ولهذا فقد ردوا عليه القول "بناتك" من قبيل أن الغضب مستولٍ عليهم ولا يريدون الحديث في هذا الأمر الآن. فعد إلى الموضوع الأساس ودعنا من "بناتك"!
أما قولهم"ما لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ" فلا يجب أن يُفهم على أنه كرم أخلاق من قساة القلوب هؤلاء؛ فهم أبعد الناس عن مراعاة الحقوق ومعرفة ما لهم وما عليهم. ولكن، وفقا للسياق، فلا تفهم هذه الآية إلا أن موضوع ترك الفاحشة ليس الأمر الذي من أجله جاءوا يحققون ويتقصون، أو ليس الأمر الذي هم يطلبونه أو يقصدونه.
وهكذا، فبسماع لوط عليه السلام لهذا الجواب عَلِم ألا فائدة، وتذكر أن مسألة عدم الإساءة للضيوف مسألة تتعلق بالقوة والمكانة، فلو كان قويا ومسنودا برهط أو قبيلة له لما تجرّءوا على ذلك، فقال: "قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ".
الوجه الثاني:
وقد يكون أن لوطا قد حاججهم في مسألة استقبال الضيوف على أنه ليس خيانة أو خرقا للأمن بالاستدلال على أن له بنات متزوجات عندهم، وأنه لو فعل ذلك فهم قد ينتقمون من بناته. ويذكر الكتاب المقدس أنه كان للوط ابنتان متزوجتان في قومه. أما قوله "هن أطهر لكم" أي أن هذا الأمر برهان ظاهر جلي على عدم إمكانية إقدامي على الخيانة وخرق الأمن. ويدعم هذا الوجه أن كلمة "أطهر" لا تعني الطهارة الجسدية والنفسية فقط، بل هي في أصلها النقاء والصفاء والوضوح وعدم اختلاط الشيء بغيره. فكأنه يقول إن هذه المسألة واضحة لكم وجلية وهنّ ووضعهنّ يشكلن برهانا لا لبس فيه على عدم إقدامي على الخيانة.
ولكن قومه لم يقبلوا بهذا البرهان. وهذا مرجعه العرف السائد بين الأقوام في ذلك الوقت والذي لا يأخذ المرأة كرهينة، بل لا يقبل برهائن إلا من الرجال. فقالوا له إنك تعلم أن هذا الأمر ليس مقبولا عندنا، ولهذا عليك أن تعود مرة أخرى إلى الموضوع الأساس.
ومع أهمية الوجه الثاني وأحقيته، إلا أنني شخصيا أميل إلى الوجه الأول أكثر بسبب أنه أكثر شمولية واتساعا وكمالا، وأيضا بسبب إشارة لغوية، وهي أن البنات قد ذُكرن بصيغة الجمع لا المثنى، مع أن ما هو معروف من الكتاب المقدس والتاريخ أنه كان له ابنتان متزوجتان في قومه. فلو كان المعنى محصورا في الوجه الثاني لكانت الصيغة "هاتان ابنتاي هما أطهر لكم"! مع ضرورة الانتباه إلى أنه مقبول أن يشار إلى المثنى بصيغة الجمع لسبب بلاغي أحيانا.
وعلى كل حال، فربما لا يكون الكتاب المقدس دقيقا في تحديد عدد البنات، ولذلك لا سبيل إلى استبعاد الوجه الثاني.
أما التفاسير التقليدية التي أساءت الفهم، فما أوردته مرفوض لأسباب منها:
1-لو كانوا مستبشرين بالغرباء لأجل ممارسة الفاحشة لكان من دواعي سرورهم أن يستقبل الغرباء دائما. ولكنهم كانوا ينهونه عن الغرباء، بل استغلوا الأمر لطرده تحت هذه الذريعة.
2-من المعيب أن يُظن بلوط عليه السلام ما لا يمكن أن يقبله إنسان عادي أو يتخيله. فكيف يمكن أن يقدم رجل ابنتيه للأشرار لكي يحمي ضيوفه؟! فكيف بالنبي الذي عادة يكون أسمى الناس خلقا، وتكون الغيرة عنده أعلى من مستوياتها عند الناس العاديين.
3-من المؤسف أيضا أن يفهم بعض المفسرين التقليديين أن هؤلاء المجرمين كانوا أكثر معرفة بما يحق وما لا يحق لهم وأرفع خلقا ونخوة -والعياذ بالله- عندما ردوا برفض العرض السخي المزعوم الذي عرضه لوط عليه السلام عليهم!
نسأل الله تعالى أن يغفر لمن وقع في هذا، ونستغفر الله العظيم من كل ذنب ونتوب إليه.
تميم أبو دقة